[size=16]عقل العقل
عند سقوط الاتحاد السوفياتي في التسعينات من القرن الماضي بدأت ظاهرة القطبية الواحدة في السياسة الدولية التي لا تزال أميركا تقودها، وتقوم إحدى ركائز سياستها الخارجية على نشر الديموقراطية في العالم، وممارسة الضغوط على الأنظمة الشمولية في العالم، خصوصاً من حلفائها في جميع الدول.
لقد سقطت أنظمة شمولية كانت تابعة للمعسكر الشرقي، وسالت دماء كثيرة، ما دفع أميركا للتدخل العسكري في بعض الدول الأوروبية، كما حدث في يوغوسلافيا، عندما حدثت مجازر وحروب دينية ومذهبية، وتلك الدول الآن تعيش باستقرار سياسي واجتماعي معقول، في دول أميركا الاثنية التي كانت تحكمها أنظمة عسكرية قمعية في مرحلة الحرب الباردة، تحولت الآن إلى أنظمة ديموقراطية تقوم على العدالة والحرية، بل إن بعض تلك الدول تحكمها أنظمة يسارية، كما في فنزويلا والبرازيل وغيرهما، لقد حققت تلك الشعوب إرادتها على رغم معارضة واشنطن لتلك الأنظمة إلا أنها تعاملت معها بواقعية وبرجماتية، خصوصاً أنها لا تهدد مصالحها في العالم، على رغم محاولة البرازيل للعب دور دولي في بعض المناطق الحيوية لواشنطن، كما هي الحال في تدخلها مع تركيا في قضية الملف النووي الإيراني، إضافة إلى مبيعات الأسلحة البرازيلية على بعض حلفاء واشنطن.
الكل يتساءل منذ ذلك الوقت لماذا عالمنا العربي يمر بهذه الحال من الركود والجمود وعدم التغيير؟ هل إننا نعيش بالفعل في ظل أنظمة ديموقراطية عادلة لها شرعيتها لدى شعوبها؟ وهل هذه الأنظمة قريبة من نبض مواطنيها، لذلك لا خوف عليها من السقوط والفوضى، وهي شعارات تطلقها بعض أنظمتنا لتخويف الشعوب بالتفكير فقط من قيام ثورات، أو انتفاضات، أو احتجاجات، لذا العالم تغير من حولنا نحو الديموقراطية والمشاركة الشعبية في إدارة شؤونه، ونحن نغط في نوم عميق، إننا في عالمنا العربي نناقش القضايا نفسها منذ تكون الدولة القطرية بعد تقسيم عالمنا إلى دول من القوى الاستعمارية في بداية القرن الماضي.
نعم هناك أحداث دولية أثرت في عالمنا العربي، من أهمها أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، ولكن التغيير للأسف كان عكسياً وسلبياً، فلم نتفق إلى الآن أن نعيد قراءة خطابنا الثقافي، خصوصاً الديني، بل على العكس نجد أن ما حدث هو إقحام الدين وتسييسه، ومحاولة توظيفه وإلغاء الآخر، سواء على مستوى الدول، أو مستوى الحركات الإسلامية، التي كان من نتاجها ظهور الحركات الإسلامية التكفيرية، مثل «القاعدة» وغيرها، التي تقتل وتفجر كل من يختلف معها بالساسة أو تفسير الدين.
التطور الذي شهده العالم، وكنا نعتقد أنه سيعجل بالتغيير الحقيقي، هو التقدم في الإعلام، أو ما أطلق عليه ظاهرة الفضائيات، التي غزت العالم ومن ضمنه عالمنا، ومن ثم لحقه انتشار ما يُسمى بالإعلام الجديد، والمتمثل في «الانترنت» وعوالمها المتعددة، من مواقع اجتماعية يزورها الملايين في اليوم، الذي أسهم بسرعة انتشار المعلومة بجميع أشكالها، سواء على مستوى نصوص أو صور، إضافة إلى انتشار الهواتف الجوالة، والتقدم الذي حدث فيها، الذي بلا شك يسرع وبشكل مذهل بالتغيير في عالمنا العربي على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، أما على المستوى السياسي فإنه كان أقل فعالية بسبب القيود الرسمية على أشكال هذا الإعلام الجديد.
لقد قامت واشنطن بإحداث تغيير بالقوة لجلب الديموقراطية لعالمينا العربي والإسلامي، فكلنا يتذكر مشاريع أميركا في «الشرق الأوسط الجديد» التي تلاشت أو أوجلت، لفشل واشنطن، أو تعثر مشاريعها في عالمنا منذ احتلال العراق وأفغانستان، فالعراق مهدد بالتقسيم إلى «كنتونات» على أسس مذهبية وعرقية، وهذا البلد العربي يعيش حرباً أهلية منذ قدوم قوات الاحتلال، فالديموقراطية لا تأتي على ظهور قوات الاحتلال، حتى وإن نجحت في تجارب سابقة، كما الحال في تجربتي اليابان وألمانيا، على الأقل تلك الدول خاضت حروباً ضد القوى الغربية، ومنيت بالهزيمة بكل أشكالها، وكان من حق المنتصرين السيطرة على تلك الدول، وإقامة أنظمة مماثلة لهم هناك.
في عالمنا، وفي حالتي العراق وأفغانستان تم تجريمهما، خصوصاً العراق، في أحداث لم يكن العراق طرفاً فيها، وهي أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، فالكل يعرف ويتذكر أن العراق على الأقل كان يرفع شعارات قومية، ويدعي بأنه دولة علمانية، ولكنه كان ضحية قيادته الطائشة في سياساتها الإقليمية ضد جيرانه، التي جلبت القوات والبوارج الغربية لمنطقة حيوية للعالم.
إن أحداث تونس الأخيرة هي في اعتقادي أكبر حركة في تاريخنا العربي المعاصر، فعلى رغم كل المحاصرة من النظام هناك لكل أفراد الشعب، واستلاب قوى المعارضة والقضاء عليها أو تهجيرها، إلا أن المواطن البسيط أو الشارع، كما يُطلق عليه، هو من طفح به الكيل، وقاد هذه الثورة أو الانتفاضة، نعم هناك من يقول إن القيادة للجماهير مهمة وضرورية حتي لا تنحرف مثل هذه الانتفاضات عن أهدافها الحقيقية إذا كان هناك أهداف محددة مسبقاً، إلا أنه يجب أن من قام بإسقاط النظام هو المواطن البسيط المقهور المغيب عن جميع المشاهد في بلاده، همه هو الحصول على قوت يومه، عندما تم المساس برجل البسطة محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه، وتم تناقل صورته بوسائل الإعلام الجديد فقامت تونس كلها. درس لنا جميعاً، «شعوباً وحكومات»، فالشعوب العربية التي كانت خائفة لم تعد كذلك بعد الآن، والحكومات يجب أن تعالج قضايا المواطن البسيطة والحقيقية من بطالة وإقصاء بأشكاله المتعددة، إن الاستقواء بالخارج ليس هو الحل، والشعوب لا تموت مهما طال سباتها.
[/size]