هيفاء مشرفة
| موضوع: حجاب المرأة – قضية دين أم أزمة عقل السبت سبتمبر 29, 2012 11:14 am | |
| دراسة للكاتب امين عمر سيد احمد
إن الله لا ينظر الى أجسامكم ولا إلى صوركم بقلم: امين عمر سيد احمد ولكــن ينظــر إلى قلوبكـم - رواه مسلم
يعاني المجتمع المسلم من أزمة عميقة تقف عائقاً بينه وبين تحقيق أي تقدم يجعله يسهم في التقدم الإنساني. تتجلى مظاهر هذه الأزمة بأشكال مختلفة ومتنوعة، حيث من ضمنها ضعف المجتمع المسلم في مجال العلم والمعرفة، وهوانه في المجال السياسي والعسكري، وتدني فعاليته في المجال الإقتصادي، وتخلفه في المجال الإجتماعي بما يمكن بيان بعضه في الجدول أدناه الذي يقدم بعض المقارنات بين العالم الإسلامي ونماذج من أقطار العالم الأخرى إعتماداً على ثلاثة مؤشرات هي الناتج القومي الإجمالي، عدد البراءات العلمية المسجلة، وعدد الجامعات المدرجة في قائمة المائة وخمسون جامعة الأولى، وذلك من ضمن مئات المؤشرات التي يمكن إستخدامها في تبيان الفوارق بين العالم الإسلامي والعالم "الآخر":
(1) International Monetary Fund, World Economic Outlook Database, April 2011 (2) Wikipedia: List of Countries by Population (3) http://www.worldatlas.com (4) Patent Counts by Country/State and Year, Utility Patents, January 1, 1963 – December 31, 2010. U.S. Patent and Trademark Office March 2011 (5) Academic Ranking of World Universities – 2010, published by ShanghaiRanking Consultancy, (http://www.arwu.org)
بالمقارنة بين مجموع كل الدول العربية وهولندا (ولا نقول أمريكا أو المانيا أو اليابان إحتراماً لمشاعر القارئ وسلامة جهازه العصبي!) نلاحظ أن الناتج الإجمالي لهولندا يمثل حوالي 40% من إجمالي الدول العربية مجتمعة وفاق إسهامها من براءات الإختراع النافعة 41 ألف مرة ذلك المقدم من كل الدول العربية وتحتل جامعاتها 6 مقاعد في قائمة أفضل 150 جامعة على مستوى العالم مقابل لاشئ لكل الدول العربية. هذا رغم أن عدد سكان الدول العربية يساوي 20 مرة عدد سكان هولندا ومساحة أقطاره تعادل 285 مرة مساحتها دع عنك التميز الجغرافي للدول العربية من ناحية الظروف المناخية المواتية وتوسط موقعه لخارطة هذا العالم الشديد الحراك والتغير نحو الأمام، هذا إضافة لتوفر العالم العربي على أفضل مقومات سياحية على وجه هذا الكوكب من آثار وشواطئ ومزارات دينية إلخ وتمتعه بثروات طبيعية يحسده عليها كل العالم بينما يصل فقر هولندا من الموارد درجة إختلاسها للأرض من البحر، هذه الأرض التي يعيش عليها سكانها ويزرعون ويصنعون ويضيفون للعالم معرفة وعلماً نافعاً!! تخيلوا معي كيف كان سيكون الفارق بين العالم العربي وهولندا لولا هذه النعمة المجانية، النفط، التي جاءت لبعض دول العالم العربي بدون فكر وتخطيط وجهد.
لقد تعددت التفسيرات والتحليلات التي تحاول الوقوف على الأسباب الكامنة وراء هذا الآداء المريع للعالم الإسلامي، إلا أننا نرى أن السبب الرئيسي والجوهري، يكمن في العقل المسلم، الذي إكتمل تشكيله بنهاية القرن الثالث الهجري، وإتخذ سماته الحالية منذ ذلك الحين. ونقصد بالعقل المسلم تلك المفاهيم والأنشطة الذهنية التي تحدد وتحكم رؤية الإنسان المسلم للعالم المحيط، وطريقة تعامله معه. من سمات ذلك العقل الظاهرة، التركيز على صغائر الأمور، الميل المفرط لتبسيط الأشياء، والإصرار على إضفاء طابع ديني على كل جانب من جوانب النشاط الإنساني، كما أن من تلك السمات الملازمة له، الجنوح الشديد لإستدرار العاطفة وإثارة الحماس وإلهاب المشاعر، والتركيز على إسترجاع صور زاهية من ماضي الدولة الإسلامية الأولى وتقديمه بشكل يوحي بإمكانية تكراره رغم إختلاف الشروط الموضوعية والذاتية.
يسند هذا العقل المأزوم، وجدان مأزوم أيضاً، ونعني بالوجدان هنا مزيج المشاعر والعواطف الذي يتحكم في نشاط وتصرفات الفرد ويؤثر في تحديد أهدافه الحياتية. لقد تم صياغة هذا الوجدان عبر قرون طويلة تحت تأثير سلطة بالغة السطوة، وطاغية القوة والتأثير، وهي سلطة التقليد، والتي نعني بها تلك السلطة المعنوية التي تشير لسيطرة منهج وفقه وفكر القرون الأولى التي أعقبت الرسالة المحمدية على كامل طريقة تفكير المجتمع المسلم في العصور اللاحقة.
تتمثل أزمة هذا الوجدان في جانبين :
• الإذعان المطلق لفكرة غير صحيحة تفترض وجود مرجعية دينية لكل مناشط الحياة وتصرفات البشر لدرجة التدخل في صغائر الاشياء كطول الجلباب وشكل اللحية واستخدام المرحاض، على الرغم من وجود الكثير من الأسانيد العقلية والدينية التي تدحض هذه الفرضية من أساسها. • الدرجة العالية من الثبات والصمود في وجه التغيير والرفض للجديد حتى إذا تم الوصول لهذا الجديد بإستخدام نفس المعايير والآليات القديمة التي تم بها صياغة هذا الوجدان نفسه !!.
يقف على حراسة ذلك العقل المأزوم، وحمايته من التفاعل والتلاقح مع الآخر، مؤسسة بالغة الضخامة والقوة والنفوذ، وهي مؤسسة "العلماء" والفقهاء. تضم هذه المؤسسة تحت عباءتها مئات الألوف من الدعاة والمشتغلين بالإفتاء المنتشرين في كل مجتمعات المسلمين، وتقع تحت سيطرتها موارد وأصول مالية وعينية لا حصر لها.
على الرغم من عدم وجود نص من القرآن أو السنة يعطي بعض الناس إمتيازاً خاصاً في معرفة الدين أو حقاً في الإفتاء، بل أن الخطاب القرآني، شكلاً ومضموناً، موجه للفرد مباشرة، كما أن جوهر التكليف الديني قائم على مسئولية الفرد عن أعماله وعليه وحده تحمل نتيجة قراراته يوم الحساب، حيث: "وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " – سورة الإسراء ؛ على الرغم من ذلك نجد أن هذه المؤسسة تحولت من كونها وسيط لتوصيل وشرح المعرفة الدينية، إلى مصدر من مصادره. لقد بلغت سيطرة هذه الفئة على قلوب المسلمين وعقولهم حداً مفرطاً لدرجة تحول قطاع منهم، في العصر الحديث، لقادة كونيين تغزو أفكارهم وتخترق مقولاتهم بسهولة قلوب وعقول ملايين المسلمين، ومن ضمنهم علماء حقيقيون في مجالات العلم الطبيعي والإنساني، يتم غسل أدمغتهم وسد منافذ النور إليها عبر التكرار المكثف لمقولات علماء القرن الثالث الهجري الذين إجتهدوا وفق ظروف عصرهم، وتوظيف اللغة بشكل يعمي العقول ويلهب المشاعر والأحاسيس، من الدلائل على قوة تأثير هذه الفئة وقدرتها الهائلة على التأثير على المجتمع، ما تناقلته وسائل الإعلام عام 2004 عن بداية تفشي مرض شلل الأطفال بعد أن إقترب العالم من القضاء المطلق عليه، نتيجة لرفض قطاع واسع من مسلمي نيجيريا تحصين أطفالهم باللقاح المضاد إستجابة لفتوى أصدرها مجموعة من علماء الدين بولاية كانو مفادها أن حملات التحصين مخطط أمريكي لإصابة النساء المسلمات بالعقم ( bbcarabic.com 26/8/2004) !!
إن من أوضح مظاهر وتجليات أزمة المجتمع المسلم هذا التركيز الشديد على مسألة "الحجاب"، بشكل تحولت فيه قطعة قماش، بقدرة قادر، لتصبح رسالة المسلمين للآخرين، ورمزاً لحضارتهم، وعنواناً لنسقهم الأخلاقي. لو أهرق المداد الذي إستنزفه هذا الموضوع في مجال آخر من مجالات المعرفة، أو أستغل الزمن الذي ضاع في الصراع حوله فيما ينفع الناس، والمسلمين بالأخص، لما كان حال المسلمين كما هو الآن يتذيلون شعوب الأرض في شتى محاور التقدم البشري بمثل ما تقدم ذكره من أمثلة.
لا إختلاف بين الناس في أن لكل ديانة طقوسها ورمزياتها وتعاليمها التي يجب على الآخرين إحترامها وإعطائها الفرصة لإثبات نفسها. أيضاً لا إختلاف في أن بعض هذه الطقوس والرمزيات ربما يصعب او يستحيل التعاطي والتحقق منها باستخدام الجهد العقلي وحده، باعتبار انها تدخل في نطاق استحقاقات عبودية المخلوق للخالق، وانها فرضت في الاصل للتعبيرعن ذلك، وهو ما يتطلب
الإقتناع والتسليم بها حتى في حالة تعذر فهم مغزاها عقلاً. وكمثال على ذلك، فليس هناك ما يمكن مناقشته حول سبب القراءة في بعض ركعات الصلاة سراً وفي بعضها جهراً، أو الحكمة من تقبيل الحجر الأسود عند الطواف عند المسلمين. بيد أن هنالك من تعاليم الدين ما توجد مساحة كافية لمراجعته والنقاش حوله وهي التعاليم المرتبطة بالمعاملات وحياة الناس اليومية، ومن ضمنها ما يتعلق بملبسهم، حيث أن ظروف البشر تختلف بإختلاف الزمان والمكان، ويدخل في ذلك ملبسهم الذي تتدخل عوامل شتى، بيد أنها معقدة، في تحديده. إنه، وفي ظل الحركية التي تسم حياة الإنسان، لا يمكن لفكرة تتعلق بحياة البشر اليومية أن تكون لها صفة الأبدية مهما كان مصدرها أو أصلها.
ربما يندهش الفرد العادي من حقيقة أن كلمة الحجاب لم ترد في أي نص ديني للإشارة لما تعارف عليه مجتمع اليوم من أنه يعني لبس المرأة "الشرعي" الذي يعني تغطية الراس وباقي الجسد عدا الوجه والكفين! حيث جاء في كل المواضع التي ذكره فيها في القرآن الكريم بمعنى حاجز أو ستار وهو أمر يؤكد لنا وجهاً من وجوه أزمة العقل المسلم الذي يقبل المسلمات بدون مراجعة. إنه، وعلى الرغم من ورود كلمة حجاب بالقرآن عدة مرات، إلا أن الاستخدام الوحيد الذي ربما التبس على البعض هو ما جاء بسورة الأحزاب " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما" وهو استخدام لايشير بتاتاً لملبس، حيث أن المقصود بالكلمة في الآية ساتر أو حاجز أو ما إليه، كما ان الأمر يختص بأزواج الرسول بدليل أن الاية ذاتها، كمثال، تحرٍم نكاح ازواج الرسول مطلقاً بينما يباح ذلك للكافة.
إن هدفنا الرئيسي من هذه الورقة، يتمثل في دحض هذه الفكرة المركزية المسيطرة على العقل المسلم منذ البدايات الأولى للدولة الإسلامية العربية، وتبيان هشاشتها من الناحيتين العقلية و الدينية. دافعنا في ذلك مساعدة المرأة المسلمة في الدفاع عن قضيتها العادلة التي تتركز حول حقها في المساواة في الإنسانية، والتي تعني هنا تحديداً قيمة أن ينظر لها كمخلوق سوي، صحيح العقل والبدن والنفس، لا إختلاف بينها وبين الرجل إلا في حدود ما تمليه الإختلافات البيولوجية بينهما، وأن مسئوليتها عن الشرور والآثام، إن وجدت، تتساوى مع مسئولية الرجل.
إن موقفنا هذا، والمبني على رفض النظرة السلفية الحالية للمرأة بإعتبارها انثى وليس إنسان، يجعلنا نرفض مفهوم الحجاب لأنه يقوم على أرضية أن المرأة عورة، وليس لإستناده على إعتبارات صحية أو جمالية مرتبطة بالمكان والزمان. أن النظرة السلفية التي تصب جل إهتمامها على تجريد المرأة من إنسانيتها عبر التركيز على جسدها، لا تختلف في جوهرها عن تلك الموجودة عند البعض في المجتمعات المتقدمة، والتي تعمل على تجريد المرأة من ملابسها إنطلاقاً من ذات النظرة: المرأة الأنثى وليس المرأة الإنسان.
إن الله لا ينظر الى أجسامكم ولا إلى صوركم بقلم: امين عمر سيد احمد ولكــن ينظــر إلى قلوبكـم - رواه مسلم
الحلقة 2/8 – الحجاب في التاريخ وفي العقل
إن الدعوة لتغطية شعر المرأة وكامل جسدها دعوة قديمة في التاريخ، وقد عرفتها كل المجتمعات القديمة تقريباً ومن قبل ظهور الأديان. تنبثق هذه الدعوة من فرضية رئيسية مشتركة بين كل حضارات العالم القديم بشكل عام، وهي أن المرأة مصدر للآثام وأن جسدها عورة. والحال كذلك، تصبح مسألة تغطية ذلك الجسد، رغم الإختلاف في درجة التغطية وكيفيتها، هي العنصر الفعال لتلافي تلك الشرور النابعة منه.
لقد لعب الحجاب دوراً آخر في التاريخ، حيث أنه مثَل في أحيان كثيرة أداة للتفريق بين الحرائر والإماء. فكل المجتمعات القديمة، شهدت بقدر أو آخر، وجود طبقة من العبيد رجالاً ونساءاً. ومن المعلوم أن دور الرجال من العبيد ينحصر في العمل البدني الشاق لمصلحة الأسياد، بينما دور الإماء يتركز في متعة هؤلاء الأسياد عبر إستباحة أجسادهن. وحيث أن الأمة في التاريخ العبودي، هي شيئ وليست بإنسان مكتمل، ويصبح بالتالي أمر إستباحتها من قبل الآخرين محتملاً ولا يمس أو يؤثر على شرف السيد، لذا كان كشف جسد الأمة وتغطية جسد الحرة رمزاً إجتماعياً ضرورياً للتفريق بينهما.
لقد عثر المنقبون في إحدى اللوحات الطينية في مدينة آشور القديمة على أحكام خاصة بحجاب النساء جاء في مقدمتها : "لا زوجات الرجال ولا الأرامل ولا النساء الآشوريات اللاتي يخرجن إلى الطريق يمكنهن ترك رؤوسهن مكشوفة. بنات الرجل سواء أرتدين شالاً أم جلباباً أم عباءة، لا ينبغي لهن ترك رؤوسهن مكشوفة. المومس يجب ألا تحجب نفسها، ويجب أن يكون رأسها مكشوفاً" (الحجاب – رؤية عصرية، إقبال بركة. نقلاً عن: قصة السفور والنقاب وإختلاط الجنسين عند العرب للدكتور محمود سلام زناتي).
قد إقتبس الفرس تلك العادة من الآشوريين عند سيطرتهم يلاد ما بين النهرين وانتقلت منهم إلى بلاد الشام وبعض المدن العربية شمال جزيرة العرب قبل الإسلام، ثم بعد ذلك انتشر الخمار والبرقع بين نساء بيزنطة وفارس وطروادة وإسبرطة وغيرها من الممالك والحضارات القديمة (المرجع السابق).
لقد كان البرقع مفروضأً أيضاً على اليهوديات، وقد ذكر في أكثر من موضع في العهد القديم (التوراة) حيث جاء :"ورفعت رفقة عينيها فرأت إسحق فنزلت عن الجمل، وقالت للعبد من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا فقال العبد هو سيدي، فأخذت البرقع وتغطت" (الحجاب – رؤية عصرية، إقبال بركة نقلاً عن سفر التكوين الإصحاح 24 من العهد القديم التوراة).
فرض اليونانيون القدماء على نسائهم الحجاب والنقاب منذ القرن الخامس قبل الميلاد، حيث كانت نساء طيبة (اليونان) يتنقبن فلا يرى من وجوهن سوى العيون. وقد إتسم المجتمع اليوناني القديم بتقليل شأن المرأة وإزدرائها والحض على تجنبها، وساد هذا الفكر في نظريات فلاسفة اليونان القدماء وأقوالهم مثل أرسطو وأفلاطون وقد إنتقل موقفهم هذا للمفكرين المسلمين الذين درسوا فلسفة اليونان وعلومهم كعبدالله بن المقفع (الفارسي) الذي كان أول من دعا إلى حجاب المرأة في العصر العباسي ونشر بين رجال عصره آراء اليونانيين فيها (المرجع السابق).
"إن النظم الإجتماعية، والقوانين والتقاليد كلها من فجر البشرية حتى مشارف العصر، واليهودية والمسيحية تحالفت على تأخير المرأة، وإعطائها صفة دونية وحرمتها من الحقوق والإستقلال بشئونها كاملة، وفرضت عليها وصاية الأب، وحدث هذا قبل الاسلام بوقت طويل بحيث يمكن القول إن الحجاب فرض نفسه على الاسلام لا أن الاسلام فرض الحجاب على المراة" ( الحجاب – جمال البنا).
قبل أن نناقش صحة فرض الحجاب بواسطة النص الديني أو عدمه، لابد من الإشارة إلى أن هنالك صورة ذهنية مسبقة وراسخة لعبت دوراً كبيراً في تفسير أو تأويل النص الديني ليلزم المرأة بتغطية كل جسدها. وهذه الصورة والتي ليست وليدة اليوم، ولا قاصرة على المجتمع العربي والمسلم وحده كما أسلفنا، تفترض أن جسد المرأة، أصلاً، هو المصدر الرئيسي للفتنة والإثارة وبالتالي هو المحفز للإغواء وتالياً للرزيلة، على ضؤ ذلك يصبح أمر تغطيته بالكامل هو السبيل للحفاظ على العفة وعلى سلامة المجتمع وتماسك قيمه الأخلاقية.
يؤدي الملبس بشكل عام ثلاثة وظائف رئيسية، بدون أن ينفي هذا تدخل مؤثرات كثيرة في تحديد خصائصه حيث من هذه المؤثرات الثقافة، الدين، الخيال، طبيعة العمل، قبول المجتمع إلخ. يمكن إختصار هذه الوظائف في التالي: أولها حماية جسم الإنسان والحفاظ عليه من الأخطار سواءاً كانت ناتجة عن الطبيعة أم عن الإنسان نفسه، ثانيها ستر الأجزاء من الجسد التي لها خصوصية بالغة لدى كل أجناس النوع الإنساني وعلى تنوع حضاراتهم ودرجات تطورهم، وثالثها التعبير عن الشخص المعني وتفرد ذاته، وإضفاء لمسات جمالية عليه.
على الرغم من إتفاق كل المجتمعات والديانات تقريباً على منظومة من القيم الكلية كالصدق، الحشمة، الشجاعة، الطموح، إلا أننا نرى أن هناك إختلافات جوهرية في فهم وممارسة هذه القيم، وهي إختلافات يمكن النظر إليها من ثلاثة زوايا. الزاوية الأولى تتعلق بالشكل الذي تتجلى به هذه القيم المجردة. فقيمة الصدق في المجتمع الغربي، مثلاً، تأخذ منحى الإحترام الشديد لعنصر الوقت في تنفيذ الأعمال، والصراحة في إبداء الرأي، إضافة للعناصرالأخرى. بينما نجد إختلافاً كبيراً في الشرق العربي في التقيد بتلك العناصر حيث يسود قدر عال من اللامبالاة عند التعامل مع عنصرالوقت، كما أن للمجاملة وجوداً أكبر في السلوك الإجتماعي للفرد حيث تتفوق على عنصري الصراحة والوضوح في إبداء الرأي. تتعلق الزاوية الثانية بديناميكية هذه القيم، حيث تتغير أشكال تجليها تلك بتأثير مجموعة من العوامل، مثل التغير في الثقافة السائدة كإنعكاس للتغير في المعارف المتاحة، أو بسبب الإحتكاك مع الثقافات الأخرى، أو بتبدل نمط الحياة كنتاج لتغيرات في في سبل كسب العيش، وما إلى ذلك.
أما الزاوية الثالثة التي يمكن من خلالها النظر للإختلاف في فهم وممارسة هذه القيم فتتعلق بدرجة الإلتزام بها. وفي هذا نقول أنه بوجد مقياس متدرج ذو طرفين يعكس مدى تقيد أفراد المجتمع بقبول وتمثل كل عنصر من عناصر منظومة الأخلاق والسلوك التي يتبناها المجتمع، حيث يكون أحد الطرفين موغل في التحفظ، يمثل الحد الأعلى من الإلتزام، والآخر غارق في التحرر، يمثل الحد الأدنى من الإلتزام، لكن السيادة تتحقق عادة للدرجات المتوسطة، وهو مايمكن أن نسميه السلوك المقبول إجتماعياً. فالصدق مثلاً يتدرج من ذلك المستوى الرفيع الذي يختص به الأنبياء والأولياء ومن إستطاع إلى ذلك سبيلاً من الناس، إلى ذلك المستوى الذي يفقد فيه بعض الناس تلك الصفة تماماً، إلا أن الجوهري في الأمر أن الغالبية تتحلى بدرجة كبيرة من الصدق مختلطة بدرج اقل من نقيضه، وهذا هو الوضع الطبيعي الذي لا يخل بتماسك المجتمع باعتبار ان الطرف الاعلى مثالي وصعب على مجمل المجتمع بلوغه وان الطرف الثاني مدمر لا يمكن للمجتمع قبوله.
وما ينطبق على الصدق ينطبق على الحشمة الجسدية، ونعنى بها هنا، ذلك القدر الذي يغطيه الملبس من الجسد الآدمي. فطالما هناك حداً معقولا من تغطية الجسد متفقاً عليه بين الناس سيظل ذلك المجتمع محتشماً وفي ذات الوقت محافظا على تماسكه وقدرته على البقاء والنمو، إذ أن الإفراط فيها يؤدي لإنغلاق ذلك المجتمع والحكم عليه بالبقاء في أسر الظلام، والتفريط فيها يؤدي إلى تحول ذلك المجتمع إلى مسخ مشوه وإلى إضمحلاله وربما زواله في النهاية. يبقى أن نقول أن هذا القدر المتفق عليه، هو أيضاً عرضة للتغير وفقاً للتغيرات التي تنشأ على مستوى المجتمع وثقافته. لتبيان طبيعية التحولات المتعلقة بمظهر الإنسان والسرعة التي تتم فيها، يحضرني دائماً مثال العادة السودانية الخاصة بوشم وجه المرأة "الشلوخ"، التي كانت عادة يمارسها كل الناس تقريباً بإعتبارها تضيف قيمة جمالية للمرأة، أما الآن فإنها تمثل تشويهاً مرفوضاً ومداناً من هذا المجتمع نفسه. تم هذا التغير في وقت ليس بالطويل بمقاييس التاريخ نتيجة للتغيرات التي تمت في ثقافة المجتمع والتي يبني عليها رؤيته للجمال والقبح.
إن المفهوم السائد لدى مجتمعاتنا بأن العفة تتحقق بتغطية كامل جسد المرأة وعزلها عن المجتمع غير صحيح، فقرارات الفرد السلوكية تنبع من عقله الذي يتحكم فيها سلباً وإيجاباً، أما العنصر الخارجي فدوره لايتعد دور المساعد والمحفز. من هنا يمكن لنا أن نفهم أن حشمة الزي مسألة نسبية، وبالتالي دورها في العلاقة الجسدية بين المرأة والرجل ليست حاسمة، وهي العلاقة التي يتخوف الناس من إبتذالها بسبب عدم الإلتزام بالحشمة بالشكل الذي ينادي به السلفيون. إن بعض المجتمعات المحلية في أفريقيا مثلاً عرفت الملابس حديثاً، إلا أن العلاقة بين الجنسين كانت مقننة إجتماعياً وتوجد أسس وقواعد محددة لقيامها، كما يعلم كلنا تقريباً أن رقصة العروس التي تبرز فيها العروس السودانية جمال جسدها عبر كشف مساحات واسعة منه للحاضرين من الجنسين، رغم رفضنا الآن لذلك، كانت شيئاً معتاداً للغاية ولا تشكل أدنى حرج إجتماعي، أو تؤدي لخدش أخلاق أي طرف. يمكن تأكيد ما نرمي إليه بدلائل متعددة، فبالنظر لمختلف دول العالم التي بها سياحة شواطئ، حيث يختلط الجنسان بالحد الأدنى من الملابس ونعني هنا ملابس السباحة، لا نجد ما يشير إلى أن ذلك يسبب خللاً جسيماً في المعادلات التي يقوم عليها ذلك المجتمع. وحتى في بعض المجتمعات العربية، كإمارة دبي مثلاً، فإنه من الصعب تصور أن الإستخدام المنتشر للملابس التي تكشف عن قدر كبير من أجساد النساء بها في فصل الصيف يمكن أن يكون مصدراً للفتنة والإغواء للرجال بشكل يؤدي للرزيلة بطريقة مباشرة. بنفس القدر الذي يصعب فيه أيضاً تصور أن هذا القدر الواسع للغاية من تغطية النساء لأجسادهن، كما هو الحال في السعودية مثلاً، يجلب العفة المطلقة للمجتمع.
إنه وعلى الرغم من عدم تمكننا من الحصول على بيانات إحصائية عن الإنفلاتات الأخلاقية في دبي (كنموذج للتحلل من الإلتزام بالمظهر المحتشم حسب التعريف السلفي المعاصر) إلا أننا نشك كثيراً بأنها ستزيد عن المعدل الذي سجلته هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسعودية (كنموذج للإلتزام الشديد بالمظهر المحتشم حسب التعريف السلفي المعاصر أيضاً) خلال عام واحد فقط والبالغ 59 الف واقعة أخلاقية منها 34,826 إعتداء على الأعراض و 24,504 مخالفة أخلاقية، علماً بان عدد الوقوعات المتعلقة بشراب المسكرات والمخدرات المسجلة لدى الهيئة لم تتعد 1,723 حادثة (العربية.نت 8/11/2008 نقلاً عن تقرير منشور بصحيفة "الوطن" السعودية بتاريخ 4/11/2008 أعلن فيه الرئيس العام للهيئة الشيخ ابراهيم عبدالله الغيث هذه الأرقام). إن هذه الأرقام تجعل من العسير بمكان عزو تلك الجرائم الأخلاقية لملابس المرأة، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار طبيعة المجتمع السعودي المحافظة التي ربما تغطي على كثير من تلك الجرائم والوقائع وتبقيها خارج دوائر الرصد والإحصاء مما يعني أن الأرقام المعلنة تقل كثيراً عما هو واقع فعلاً.
لقد أوصل الإنقياد الأعمى والخضوع لسلطة التقليد بفعل الأسباب والعوامل التي ذكرناها آنفاً، المجتمع العربي الإسلامي لإطلاق صفة "متبرجة" بكل سهولة على الأنثى التي تظهر شعرها أو جزء منه، على الرغم من أن الشعر نفسه لا يمثل دوراً ذا قيمة من الناحية النظرية والعملية في عملية الإغواء التي عادة ما تكون الهدف الأساسي لعملية "التبرج"، مع ملاحظة أن نفس المجتمع يتفادى إطلاق ذات الصفة على الرجل الذي يخالف المألوف من الملبس كإرتداء قميص أو جلباب نصف كم، أو بنطال متوسط الطول، إلخ، مما يؤكد أن الأمر ليس متعلقاً باللبس أكثر من كونه مفهوماً إجتماعياً مستمد من تلك النظرة التجريمية للمرأة.
لقد حاولنا في الفقرات السابقة توضيح الإطار النظري للتعامل مع موضوع الملبس بشكل عام من زاوية العقل، إلا أننا نرى أيضاً وحتى تكتمل الصورة من الناحية المنطقية أن نناقش دعوى المطالبين "بالحجاب" بشكل أكثر تفصيلاً وإثارة للإهتمام، وقد رأيت أن ما كتبه الأستاذ هشام سمير دهشان في هذا الشأن يقدم إجابة رائعة بمقاله المعنون "الحجاب المزعوم" بتاريخ 24/3/2007 والمنشور بموقع مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي. وها أنذا أورد بعض النصوص المطولة من مقالته تلك مع بعض التصرف بغرض خلق السلاسة المطلوبة مع مقالتنا هذه.
"هناك شبه إجماع عند رجال الدين المسلمين بان غطاء الرأس (الحجاب ) فريضة إسلامية، وإجماعهم هذا يرجع إلى زعمهم أن هذا الغطاء حجاب، فرضه الله سبحانه تعالى على المرأة المسلمة من أجل حجب زينتها وجمالها عن عيون الناس، ومن أجل حمايتها من الذئاب البشرية المتربصة بها."
"بكل صراحة مطلقة أرى أن كلامهم هذا غريب جدا وغير مقبول فكريا وذلك لسببين السبب الأول لأن جمال وزينة المرأة موجود بقدر كبير في وجهها وليس شعرها، السبب الثاني أن من ينظر للمرأة بغرض الإطلاع على زينتها أو مغازلتها، ينظر ويدقق في ملامح وجهها (عينها، شفاتها ،خدودها ،وجناتها) أما شعرها فليس مهماً بقدر أهمية الوجه الكبيرة جدا في مسألة زينتها وحسنها وللإيضاح أكثر في التالي هناك عدة أسئلة مهمة جدا ومفصلية في قضية الحجاب، ومن خلال الإجابة عليها سوف تتكشف لنا حقائق مهمة جدا في كشف أكذوبة الحجاب: السؤال الأول أين تكمن زينة وجمال المرأة؟ السؤال الثاني ما هي مواصفات المرأة الجميلة التي تجعلها محط إعجاب واهتمام الرجال؟"
"أولا بالنسبة لمواصفات المرأة الجميلة فهي تختلف من شخص لأخر، ومن مجتمع لأخر ولكن سوف أتكلم عن العام والمشهور منها. من مواصفات المرأة الجميلة العيون الملونة (خضراء ،زرقاء، عسلي) ،البشرة البيضاء الصافية، الشفاه الغليظة الممتلئة، العنق الصافي الطويل،الأنف الدقيق، صغر السن، الشعر الأشقر أو الأسود، القوام المتناسق. ومن خلال تعرفنا على مواصفات المرأة الجميلة في السابق، ندرك الحقيقة المعلومة لدي الجميع، وهي أن جمال وزينة المرأة موجود معظمه في وجهها، وأن المرأة تعرف بين الناس بأنها جميلة من خلال جمال وجهها، فيقال إنها ذات عيون ملونة ساحرة، وأنها ذات بشرة صافية بيضاء وناعمة الملمس. و كذلك من السابق نعرف أيضا أن الوجه هو مقياس جمال المرأة عند الرجال ومن خلال جمال وحسن الوجه يقع الرجال في حب النساء. وكما أن المرأة الجميلة تكون جميلة من خلال جمال وجهها كذلك المرأة الغير جميلة يكون سبب تدنى جمالها بسبب عيوب في شكل الوجه"
"ليس ما يميز وجه المرأة عن شعرها أن الوجه يوجد به القدر الأكبر من جمال المرأة فقط ، فبجانب هذا للوجه مميزات أخرى مهمة، وهى أن الوجه شيء حي قادر على التعبير فالوجه به نظرات المرأة التي تعبر بها عما بداخلها وما تريد قوله، وتكون نظرات حب وإعجاب أو نظرات رفض واستياء، وكذلك يوجد بوجه المرأة ابتسامتها الصافية التي تعبر بها عن ارتياحها و رضاها عن حبيبها، ويوجد بوجه المرأة أيضا ضحكتها التي تهز الأرض معها والتي تخطف بها قلوب العاشقين. فإذا كان هذا حال وجه المرأة، القدرة على التعبير والحيوية والحياة يأتي على النقيض تماما شعرها، فشعر المرأة مجرد شكل صامت يحتوى على قدر ضئيل من الزينة مقارنة بقدر الزينة الموجودة في الوجه، فشعر المرأة مجرد صورة صامتة غير قادرة على التعبير عكس الوجه تماما. وأخيرا وليس أخر المرأة ليست مجرد صورة جميلة فقط ينظر الرجل إليها ويستمتع بالنظر إليها فبجانب جمال الصورة هناك أشياء أخرى مهمة جدا جدا في مسألة جمال المرأة وإعجاب الرجال بها مثل أنوثتها، ومستوي ذكائها، ومقدار ثقافتها، ومستوى التعليم والمعرفة لديها، ومدى تقبل الناس لها، فكثير ما نجد امرأة جميلة الشكل والصورة ولكن بسبب تدنى أنوثتها أو بسبب خشونتها في التعامل مع الغير لا تكون محل اهتمام الرجال، بعكس امرأة أخرى تكون متوسطة الجمال ولكن بفضل أنوثتها وأناقتها تكون محل إعجاب واهتمام الرجال."
"من خلال ما سبق ذكره أعتقد أن لنا الحق في أن نسأل رجال الدين وكل من يزعم أن غطاء الرأس فريضة إسلامية فرضها الله سبحانه وتعالى علي المرأة المسلمة من أجل حجب جمالها وزينتها. ونقول لهم هل من الممكن أن يفرض الله سبحانه وتعالى وهو العظيم الجليل حجاب على شعر المرأة صاحب القدر الضئيل من زينتها ويسمح لها بالكشف عن وجهها مكمن زينتها وجمالها؟ وهل من الممكن أن يفرض الله الحجاب على شعرها الصامت صاحب القدر الضئيل من الزينة، ويسمح لها بالكشف عن وجهها المعبر الذي يوجد به ابتسامتها الجميلة الصافية ،وضحكتها الرنانة، ونظرتها الساحرة؟ طبعا ليس من المقبول والمعقول أن يفرض الله سبحانه وتعالى حجاب بهذه الصورة، لأن العقل والمنطق يقولون انه لو أراد الله سبحانه وتعالى فرض حجاب على المرأة بقصد حجب زينتها سوف يكون هذا الحجاب على وجهها مكمن زينتها ومقصد من يريد الإطلاع على زينتها أو مغازلتها، وبالطبع لن يكون هذا الحجاب على شعرها صاحب القدر الضئيل من الزينة فقط"
"التجربة والواقع اثبتا أن هذا الغطاء المزعوم دون أي جدوى أو فائدة تذكر في مسألة حجب زينة المرأة، أو حمايتها من عيون الناس أو أي مضايقات تتعرض لها من أي نوع، فهو لم يحجب زينتها ولم يحميها من عيون الناس، والدليل على ذلك عشرات المعاكسات التي تتعرض لها الفتاة المحجبة يوميا في الشارع، وتكون هذه المعاكسات بكلمات مدح وثناء على قوامها، وعلى جمال عينها، وعلى رقتها وأناقتها، وأشياء كثيرة من هذا القبيل من مميزات المرأة الجميلة التي لها علاقة بشكل مباشرة بجمال وجهها."
"لذلك نسأل رجال الدين وكل من يزعم أن غطاء الرأس يحجب زينة المرأة ونقول لهم ما هي جدوى وفائدة هذا الغطاء أن لم يستطع حجب زينة المرأة وكذلك لم يستطع حمايتها؟ وهل من الممكن أن يفرض الله فريضة ثبت أنها دون أي جدوى أو فائدة تذكر؟ ولماذا التمسك بقطعة من القماش ثبت أنها دون أي جدوى أو فائدة تذكر بالنسبة للقيام بالغرض الذي وجدت من اجله وهو حجب زينة المرأة، وأيضا ثبت أن وجودها مثل عدمها؟"
"هناك عدة أسئلة مهمة جدا إلى كل من يزعم أن شعر المرأة عورة : السؤال الأول لماذا شعر المرأة عورة وشعر الرجل ليس عورة؟، السؤال الثاني لماذا شعر المرأة يثير الغرائز والشهوات وشعر الرجل لا يثير الغرائز والشهوات؟، السؤال الثالث ما هو الفرق بين شعر المرأة وشعر الرجل الذي يجعل من شعر المرأة عورة و يثير الغرائز والشهوات وشعر الرجل ليس عورة ولا يثير الغرائز والشهوات؟"
"أنا آري من وجهة نظري انه ليس هناك أي فرق محسوس بين شعر المرأة وشعر الرجل يجعل من شعر المرأة عورة تثير الغرائز والشهوات وشعر الرجل ليس عورة، غير الفرق في عادات وتقاليد خاصة بإطالة المرأة لشعرها وتقصير الرجل لشعره وكثيرا ما يحدث العكس، ولو كان شعر المرأة يثير الغرائز والشهوات لكان شعر الرجل هو الآخر يثير الغرائز والشهوات، وعلى من يزعم أنه هناك فرق بين شعر المرأة وشعر الرجل يقول لنا ما هو الفرق، وكيف يمكنه التفرقة بين خصلتين من شعر رجل وامرأة." إنتهى.
مما يؤكد دقة تعبير كاتب النصوص أعلاه، وقوة منطقه وحجته في أن الوجه هو منبع الجمال والفتنة وليس الشعر، إستخدام إسلاميو السودان لشعار "الحسن أسفر بالحجاب" والذي يرفقون معه صورة إمرأة "محجبة" فائقة الجمال، وأظنها النائبة التركية مروة قاوجي، بغرض ترغيب النساء في "الحجاب"، في مخالفة واضحة لفلسفة الحجاب من الزاوية السلفية، تلك التي تستهدف من الناحية النظرية إخفاء هذا الجمال، وليس إسفاره، حتى لايفتح باباً للشيطان، مما يدل على إرتباك عظيم لا يمكن تفسيره إلا بعزو الأمر كله للتهافت السياسي الذي يستخدم الدين كوسيلة لتحقيق مراميه!!
وعلاقة إسفار الجمال عبر "الحجاب" ليست جديدة فقد سبقهم الشاعر القديم حينما قال: قل للمليحة بالخمار الأسود ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبـــــد قد كان شمــر للصلاة ثيابـــه حتي وقفت له بباب المسجــد ردي عليه صلاته وصيامـــــه لا تقتليه بحق دين محمــــد لا عجب إذا علمنا بأن هذه الإشادة بالخمار إنما كانت في معرض الترويج لبيع تلك الأخمرة التي كسدت عند تاجرها، فاستغاث التاجر بالشاعر الفحل لترويج بضاعته، تماماً مثلما إستنجد السياسي بالمصور البارع لتسويق فكرته في المثال الأول!!.
إن الإحتجاج بالنصوص في المسائل المتعلقة في غير مايختص بالعقيدة والعبادات، لا يجب أن يشكل في نظرنا معياراً قاطعاً من الأساس، حيث أن الكثير من النصوص الواردة في هذا الإطار ترتبط بشروط وظروف الزمان والمكان الذي نزلت فيه.
على الرغم من أنه ليس من أهداف هذه الورقة مناقشة أهلية أسس وآليات الفقه التقليدية والتي من أهمها الإحتجاج بالنص بدون النظر في أسباب نزوله أو سياقه التاريخي، وهو أمر عالجناه بشكل مفصل في ورقة أخرى، إلا أننا نرى، ولفائدة النقاش، أن نتطرق لواحد فقط من دواعي رفضنا لإعطاء النصوص حجية مطلقة لا ترتبط ببعدي الزمان والمكان المتغيرين بطبيعتهما، وهي إبطال ذلك الفقه بنفسه لبعضها نتيجة لتخطي الزمان لها. والأمثلة كثيرة، فلماذا لاينهى السلفيون الناس، وأنفسهم إبتداءاً، عن إستعمال الأدوية وإلتماس العافية في المشافي، ويأمرونهم بالتداوي بالحبة السوداء والحجامة والرقية الشرعية بإعتبار أن هناك نصوص صريحة تنادي بذلك، كالحديث الوارد بصحيح البخاري (إن هذه الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا من السام) ؟ ما الذي يمنعهم من مطالبة الدولة بتوزيع غنائم الحرب على محاربيها إمتثالاً لما جاء بالقرآن والسنة، بدلاً عن ضمها لممتلكاتها كما هو الحال الآن؟ لماذا يقبلون من الدولة أن توقع على المواثيق الدولية الخاصة بتحريم الإسترقاق المشروع دينياً وفقاً لنصوص محكمة، وتحرم بالتالي ما أباحه الله، علماً بأن القرآن الكريم نفسه يمنع تحريم ما أحل الله وفقاً لما جاء بسورة المائدة يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ؟ ما الذي جعل بعض النصوص للإطلاع وأخرى للإتباع؟
على كل حال، وحتى نرد حجج أولئك المنادين بالحجاب، سنتطرق إبتداءاً من هذه الحلقة مناقشة أمره بإستخدام نفس مناهج وآليات الفقه التقليدي، بغرض إثبات أن لا أصل ديني لما يعرف بالحجاب الإسلامي بشكله المطروح حالياً، وأن الأمر لا يعدو أن يكون رأي بشر عاديين، ليس لديهم أي قدسية، فرضت عليهم ظروف عصرهم فهم معين للنص الديني لا ينبغي أن يكون ملزماً للآخرين. ولأجل ذلك سوف نتناول بالنقاش كل النصوص الواردة بالكتاب والسنة المعلومة لدينا والتي يستند عليها الداعون للحجاب.
سورة النور – آية 31: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون".
إن هذه الآية لا تؤسس حكماً بإلزامية "الحجاب الإسلامي" بل أننا نزعم أنها لاتشير إليه، وذلك للآتي: • غض البصر وحفظ الفروج هو أمر مطلوب من النساء والرجال ويدخل في باب آداب الإسلام المتفق عليها وليس له علاقة مباشرة بشكل اللبس. • ضرب الخمر على الجيوب المقصود به تغطية جزء حساس من صدر المرأة كان مكشوفاً في الجاهلية وذلك عبر إسدال الخمار الذي كان يلبس لتغطية رأس المرأة على الصدر بدلاً عن الظهر كما كان متبعاً في ذلك الزمن علماً بأن الآية لم تشر لشعر المرأة من الأساس. الجدير بالذكر أن الآية لم تحدد طول وعرض هذا الخمار أو إذا ماكان مطلوباً منه تغطية الرأس أو جزء منه، كما لم تشر إلى ما إذا كان يجب أن يكون شفافاً أو سميكا، وإنما أشارت إليه فقط كوسيلة لتغطية الجيوب (الصدر). • تشير كلمتي خمار وعمامة لمعنىً واحد وهو غطاء الرأس الذي يستعمل للحماية من اشعة الشمس والعوامل الطبيعية الأخرى، ففي الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله (ص) مسح على الخفين والخمار (ويعني العمامة)، مما ينفي عن الخمار أي صبغة دينية يحاول البعض إلصاقها به وإلا لكانت العمامة أيضاً ملزمة لنا بإعتبار أنها كانت الغطاء المستخدم لرؤوس الرجال. الخلاصة أن الآية لم تفرض الخمار تماماً مثلما لم تفرض آية أخرى لبس العمائم التي كانت تغطي روؤس الرجال. • تعرضت الاية لزينة المرأة ولم تتعرض لجسد المرأة وطلبت منهن عدم ضرب أرجلهن للفت النظر للزينة المخفية التي لايجب على الآخرين الإطلاع عليها، أي تلك التي تلفت النظر لمكامن الفتنة بها كما يفهم من سياق الآية. • الآية إذاً، نصاً ومعنىً، تطلب من المؤمنات الإحتشام والبعد عن تعمد الإثارة والإغواء ولم تضع قالباً مرسوماً لما ينبغي أن يكون عليه لبس المرأة المسلمة، إلا أن الففه التقليدي ولأسباب سبق الإشارة إليها ومناقشتها في بداية هذا البحث، ظل يدور ويلف ويبحث عن أي إشارة هنا أو هناك من أقوال وآراء السلف لإنطاق الآية بغير ما نطقت به. لا يمكن لنا بأي حال التشكيك في ذمم ومقاصد أولئك الصالحين من السلف الذين كرسوا كل جهدهم لأن تعني هذه الآية شيئاً آخر غير ما نطقت به، وهم في النهاية بشر من لحم ودم يصيبون ويخطئون، إلا أن لنا حقاً لا لبس فيه في التحفظ على إستنتاجاتهم التي كانت نتاجاً لمستوى تطور عصرهم وموروثات مجتمعاتهم التي يغلب عليها طابع البداوة وغلبة الآراء المناهضة للمرأة (أليس هو ذات المجتمع الذي كان أجدادهم يمارسون فيه وأد البنات؟؟!). • لم تنص الآية لا صراحة ولاضمناً على أن تغطية شعر المرأة وجسدها بأكمله واجباً دينياً. بل أن حديث "لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار" الذي ورد بصيغ متشابهة في مجموعة من كتب الحديث المعروفة يفيد بجواز الصلاة بدون خمار في غير أيام الحيض، أي في الأحوال العادية، وهو ما ينفي صفة "العورة" عن شعرها حيث أن ستر العورة من شروط صحة الصلاة. • عندما لم يساعد النص الفقهاء التقليديين في الوصول لمقصدهم لجأوا لتأويل الزينة لتقود للمعنى الذي لم يرده النص القرآني مما أدى لإختلافاً عظيماً فيما بينهم فمنهم من قال بأن الزينة الظاهرة التي يمكن إبداءها للغير- أي المسموح بها - والتي أشارت إليها الآية هي الثياب فقط وكل أنواع الزينة الأخرى تندرج في تلك المخفية التي لايجوز إطلاع الآخرين عليها كالخلخال والسوارين والقرطين والقلائد، ومنهم من وضع الكحل والسواران والخاتم في باب الزينة الظاهرة التي يجوز للآخرين الإطلاع عليها في منافاة كاملة للرأي الأول. بل أن منهم من جعل الزينة الظاهرة أجزاء من جسد المرأة نفسه وهما الكفان والوجه إستناداً على فهمهم لحديث سنناقشه لاحقاً في إطار دراستنا هذه. • بالنظر لنص الآية تبرز اشكالية لغوية بين لفظي الإبداء والإظهار أمام أصحاب إستخدام آية الزينة في التدليل على وجوب الحجاب، وهو أمر عالجه مقال بقلم غالب حسن الشبندر بعنوان "قراءة أخرى في آية (زينة) المرأة في القرآن" ورد بموقع إيلاف – يوليو 2007. تتمثل هذه الإشكالية في الإختلاف الواضح بين لفظي "الإبداء" و "الإظهار". فالإبداء لغة هو الإظهار الشديد وليس الإظهار العادي، على هذا الأساس يمكن أن يفهم الشطر من الآية: "ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن" بإعتباره يسمح بإظهار الزينة لغير بعولتهن بشرط عدم الغلو في إظهارها لأن الإبداء خاص بالزوج والمحارم والإظهار خاص بغير المحارم والدليل على ذلك الشطر من الآية الذي يقول "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها". فكلمة إبداء لا تعني مطلقاً إظهار وإلا لكان الشطر الأول من الآية مختلاً من الناحية اللغوية حيث يمكن قراءته في تلك الحالة "ولا يظهرن زينتهن إلا ما ظهر منها" وهو أمر لا يمكن تصوره علي أي حال. بناء على ما سبق، نفهم أنه من الجائز إظهار المخفي من الزينة، لان الممنوع هو إبداء هذه الزينة المخفية وليس إظهارها مما يعني أن النظر للآية في مجملها لا يفيد في تأكيد وجوب تغطية الجسم بالكامل. • إن الفهم البسيط والمباشر والواضح للآية بإعتبارها تدعو للتمسك بالعفاف والفضيلة عبر الإعتدال في الملبس والزينة يجنبنا كل تلك التناقضات التي قادنا إليها الفقه التقليدي في سعيه الحثيث للتضييق على المرأة، فإبداء الجمال أمر مشروع وإستخدام الزينة لإبرازه شيئ طبيعي وهو أمر يؤكده صحيح الدين نفسه. وشاهدنا على ذلك الأحاديث الثلاثة الصحيحة التالية : الحديث الأول وجاء بصحيح البخاري: "كتب عمر بن عبد الله بن الأرقم إلى عبد الله بن عتبة بخبره أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب (أي تزينت لتلفت النظر - الكاتب) فدخل عليها أبو السنابل ابن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها ما لي أراك تجملت للخطاب ترجين النكاح فإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر . قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي"، نلاحظ أن أبو السنابل لم يعترض على مبدأ التجمل وإنما في توقيته كما نلاحظ أن الرسول (ص) لم يستهجن مسلكها المتمثل في التجمل للخطاب. الحديث الثاني وجاء بصحيح البخاري أيضاً: "عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أخاه الفضل كان رديفاً للنبي صلى الله عليه وسلّم، في حجة الوداع فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم، يصرف وجه الفضل إلى الشق الأخر"، نلاحظ، أيضاً أن الرسول (ص) لم يستهجن هذا الإبداء للحسن، الذي جعل الفضل يطيل النظر، ولكنه وجه بغض البصر. الحديث الثالث وجاء بصحسح مسلم: "عن بن سعد أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست .. إلى آخر الحديث" والحديث يثبت بوضوح أن الرسول (ص) كان يتأمل في وجهها. مع كل هذه الحقائق الواضحة لا يسع المرء إلا الإستغراب من هذا القدر الهائل من تعذيب الذات، وتغريبها عن الجمال الذي تعتبر الزينة وسيلة إبرازه، والتعقيد الغير مبرر لحياتهم ذلك الذي يمارسه المسلمون على أنفسهم بإصرار لا يعرف الكلل.
تعرضت سورة الأحزاب لأمر الحجاب أو زي المرأة في موضعين إثنين على النحو التالي، رغماً عن أن أولهما ليس له علاقة بالزي من الأساس كما سنبينه في حينه، إلا اننا أتينا به بإعتبار إحتجاج بعض القائلين بوجوب الحجاب به.
الموضع الأول – آية 53: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما".
يتبع... | |
|
هيفاء مشرفة
| موضوع: حجاب المرأة – قضية دين أم أزمة عقل السبت سبتمبر 29, 2012 11:15 am | |
| إنه وبأقل قدر من التمعن في كلمات هذه الاية وسياقها نصل لحقيقتين واضحتين لا يمكن لعقل سوي منزه عن الغرض إلا الوصول إليهما بكل بساطة:
• الحجاب المشار إليه في الآية لا يقصد به قطعة من القماش يغطى بها شعر المرأة وإنما يقصد به وضع ساتر مادي، كحائط أو ما إليه، ليعزل نساء الرسول (ص) عن الناس ويتيح للناس التعامل معهن من خلفه، أي الستار، إذا لزمت الحاجة لذلك. ومن سياق الآية وبالرجوع لسبب نزولها يتضح أن المقام أصلاً لم يكن مقام حديث عن الملبس وإنما كان مقام وضع شروط تحكم آداب تعامل الناس مع بيت الرسول (ص) ونسائه، وقد كان السبب المباشر لذلك هو سلوك بعض الصحابة عندما أولم رسول (ص) لهم في بيته عند عرسه من السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها وأطالوا الجلوس والأنس. وإن كان الأمر مقصوداً به اللبس لكانت أفصحت عنه الآية بجلاء بدون ترك الأمر للتخمين حيث أن القرآن قد صرح بوضوح: "رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور" - سورة الطلاق. يؤكد خصوصية الحجاب لنساء الرسول ما روي بصحيح الحديث، أنه عندما اسرت السيدة صفية وآلت الى الرسول (ص)، عرف المسلمون انه اتخذها زوجة عندما ضرب عليها الحجاب، كما يؤكد عدم إرتباط كلمة حجاب باللبس أن القرآن الكريم إستخدم ذات العبارة للدلالة على الساتر والحاجب في مواضع كثيرة منه:
o "وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون"- الأعراف – آية 46
o "وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا" – الإسراء آية 45
o "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا. فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا" مريم – آية 17
o "وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون" فصلت – آية 5
o "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم" الشورى – آية 51
• الخطاب موجه إلى نساء الرسول (ص)، ومقصود بهن وحدهن، ولا يمكن بل لا يصح، في تقديرنا، تعميمه على مطلق النساء بدليل واضح لا لبس فيه، فبداية الآية تتحدث عن بيت النبي تحديداً " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم"، وتنتهي بأمر صارم يخص نساء النبي وحدهن " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا". لم تكن هذه الآية هي الوحيدة في السورة المشار إليها التي تلزم نساء النبي بما يخالف كافة النساء، مما يصبح معه الإعتماد على مبدأ العبرة بعموم النص غير ذي نفع، فقد أفاضت الآيات التي سبقتها بما يقطع الشك باليقين حيث أوضحت: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". لو كان الأمر يخص النساء في مجموعهن لكن منطقياً أن يجئ الأمر على منوال الآية اللاحقة في نفس السورة والتي تقول "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين ..".
الموضع الثاني – آية 59: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما".
ركزت معظم كتب التفسير على أن مناسبة نزول هذه الآية يتعلق بضرورة حياتية مرتبطة بذلك الزمان إقتضها ضرورة تمييز الحرائر عن الإماء في مدينة الرسول (ص)، حيث كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة يتعرضون للنساء، فقد كانت مساكن أهل المدينة ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها لذا، وعلى ضؤ هذه الحقائق الواضحة، طلبت الآية من نساء المدينة إدناء ملابسهن. يفيد القرطبي كمثال: " أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهن بإرخاء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكنف فيقع الفرق بينهن وبين الإماء فتعرف الحرائر بسترهن فيكف عن معارضتهن من كان عذبا أو شابا وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة فتصيح به فيذهب فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية بسبب ذلك" ويسترسل القرطبي في ذات الإتجاه ويقول: "{ ذلك أدنى أن يعرفن } أي الحرائر حتى لا يختلطن بالإماء فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية فتنقطع الأطماع عنهن وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى امة قد تقنعت ضربها بالدرة محافظة على زي الحرائر". لا يغير من مغزى نزول هذه الآية ومضمونها إختلاف معنى الجلباب لدى المفسرين وتحديد معناه بدقة، فالثابت أن نساء ذلك الزمان كن يلبسن الجلابيب، فالجوهري في الموضوع أن الآية طلبت منهن إدناءها أي زيادة مقدار تغطيتها للجسد، ليتجنبن تعرض الفساق لهن. إختصاراً، لا نعتقد أن هذه الآية تقف دليلاً على وجوب ما أصطلح على تسميته بالحجاب الإسلامي وذلك للآتي:
• الآية نزلت لمعالجة قضية محددة ومعلومة – وفقاً لما جاء بكتب التفسير- تتمثل في حماية الحرائر من المؤمنات من هجمات الفساق وذلك عبر الطلب منهن تغطية جزءاً أكبر من أجسادهن يسمح بالتفريق بينهن وبين الإماء، خاصة في الظلام، ولم تحدد الآية مقدار ذلك الجزء أو كيفية تغطيته، كما لم تتطرق الآية لموضوع تغطية الشعر. إن إختلاف الفقهاء في تعريف الجلباب وتحديد المقصود بالإدناء يؤكد أن أمر إقحام الآية في دعواهم "للحجاب" لا يعدو أن يكون أمراً بشرياً محضاً، أثرت فيه تقاليد عصرهم، ومدى المعارف المتاحة لديهم، وإنغلاق تفكيرهم، نتيجة لمجموعة الأسباب التي تعرضنا لها في الأبواب السابقة.
• لايمكن تطبيق قاعدة "العبرة بعموم النص" التي تحتج بها الأغلبية العظمى من الفقهاء في هذه الحالة، حيث أن التوجيه بالإدناء تم ربطه بسبب واضح وهو أن " يعرفن فلا يؤذين"، بما يعني جلياً أنه إذا كان متاحاً تحقق المعرفة والتمييز بغير إدناء الجلابيب لجاز ذلك. إنه مما يؤكد بوضوح خصوصية السبب في هذه الآية أن عمر بن الخطاب، كما ورد في كتب التفسير، إذا رأى امة قد تشبهت بالحرائر، بمعنى أدنت ثوبها، ضربها بالدرة محافظة على التمييز المطلوب بين الإماء والحرائر. أننا نذهب أكثر من ذلك، ونقول أن حكمة الشارع من الأمر بالإدناء وهي أن "يعرفن فلا يؤذين" تتطلب العكس تماماً في بعض المجتمعات المعاصرة، خاصة للجاليات المسلمة في الغرب، حيث أن إرتداء "الحجاب" هو الذي يعرض صاحبته للاذى والتضيق، ويعرض أسرتها للخنق الإجتماعي وربما الحرمان من الحقوق الطبيعية لدى تلك المجتمعات، فما قول فقهاء فضائياتنا في ذلك!
•
• إنه مثلما لم تفرض آية " وليضربن بخمرهن على جيوبهن" التي ناقشناها سابقاً الخمار وإنما أشارت إليه بإعتباره الغطاء المعروف لشعر المرأة في ذلك الزمان (تماماً مثل لبس العمامة للرجل الذي كان سائداً في ذلك الزمان أيضاً)، لم تفرض هذه الآية الجلابيب بإعتبارها زياً واجباً للمرأة المسلمة كما يحاول البعض الإيحاء بذلك، بل كل ما طلبته هو أن تزيد المرأة المساحة المغطاة من جسدها تمييزاً لها عن الإماء كحماية لها من الفساق، وجاءت بذكر الجلباب بإعتباره الرداء المعلوم في ذلك الزمان. إن تذرع من يريد إضفاء وجوب الخمار والجلباب كرداء للمرأة المسلمة بإعتبار وروده في القرآن، يشبه تماماً وضع من يريد أن يفرض الحج على الناس بإستخدام الأرجل والجمال فقط – بدلاً عن الوسائل الأخرى كالطائرات والسفن والحافلات - إستناداً على آية "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"!! أو كحال من يريد أن يوجب علينا إستعمال الدواب في التنقل أسوة بالسلف الصالح، وعلى رأسهم سيد البرية (ص)، بإعتبار ما تواتر في السنة، وما أوره القرآن الكريم " والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون" - سورة النحل.
أولاً: الحديث الذي يفيد بوجوب تغطية الجسم عدا الوجه والكفين:
الرواية الأولى - سنن أبي داؤد: عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد قال يعقوب ابن دريك عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى وجهه وكفيه.
الرواية الثانية سنن البيهقي الكبرى: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد حدثنا أبو عمران الجوني حدثنا محمد بن رمح حدثنا بن لهيعة عن عياض بن عبد الله أنه سمع إبراهيم بن عبيد بن رفاعة الأنصاري يخبر عن أبيه أظنه عن أسماء بنت عميس أنها قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بنت أبي بكر وعندها أختها أسماء بنت أبي بكر وعليها ثياب شامية واسعة الأكمام فلما نظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخرج فقالت لها عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كرهه فتنحت فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام قال أولم تري إلى هيئتها أنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا وأخذ بكفيه فغطى بهما ظهر كفيه حتى لم يبد من كفه إلا أصابعه ثم نصب كفيه على صدغيه حتى لم يبد إلا وجهه.
الرواية الثالثة - الطبري: قالت عائشة : دخلت على ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض فقالت عائشة : يا رسول الله إنها ابنة أخي وجارية فقال : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى.
بالنظر للثلاثة روايات المطروحة أعلاه نلاحظ التالي:
• تعتبر هذه الأحاديث من أحاديث الآحاد الظنية ولا تدخل في مجموعة الأحاديث المتواترة أو المشهورة، و إنما هي للإستئناس والإسترشاد ولا يجب أن يبنى عليها حكماَ شرعياً.
• الأحاديث من الأحاديث الضعيفة حيث لم يرد الأول في أي من كتب الحديث غير سنن أبي داود، وقد ضعًفه راويه نفسه بتأكيده أن الحديث مرسل حيث أن خالد بن دريك لم يدرك عائشة ولم يسمع عنها ذلك. وليس أدل من ضعفه أكثر من رأي مفتي السعودية عبد العزيز بن باز الذي ضعَفه من خمسة أوجه حيث قال:
o الراوي عن عائشة خالد بن دريك لم يلق عائشة، فالحديث منقطع، والحديث المنقطع لا يُحتج به لضعفه.
o إن في إسناده رجلاً يُقال له سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يُحتج بروايته.
o إن قتادة الذي روى عن خالد بالعنعنة وهو مدلس يروي عن المجاهيل ونحوهم ويُخفي ذلك، فإذا لم يصرح بالسماع صارت روايته ضعيفة.
o إن الحديث ليس فيه التصريح أن هذا كان بعد الحجاب، فيحتمل أنه كان قبل الحجاب
o إن أسماء هي زوج الزبير بن العوام، وهي أخت عائشة بنت الصديق وامرأة من خيرة النساء ديناً وعقلاً، فكيف يليق بها أن تدخل على النبي (ص) وهي إمرأة صالحة في ثياب رقاق مكشوفة الوجه والكفين وزيادة على ذلك بثياب رقيقة وهي التي تُرى عورتها منها فلا يُظن بأسماء أن تدخل على النبي (ص) بمثل هذه الحال في ثياب رقيقة ترى من ورائها عورتها فيعرض عنها النبي (ص) ويقول لها عليك أن تستري كل شيء إلاّ الوجه والكفين. معنى هذا أنها دخلت على النبي (ص) وهي كاشفة لأشياء أخرى من الرأس أو الصدر أو الساقين أو ماشابه ذلك، وهذا الوجه الخامس يظهر لمن تأمل المتن فيكون المتن بهذا المعنى منكراً لا يليق أن يقع من أسماء رضي الله عنها.
• أما الحديث الثاني فإسناده ضعيف بشهادة المصدر المنقول عنه نفسه، أما الثالث فقد أورده الطبري في سياق تفسيره لآية الزينة ولم يرد في كتب الحديث المعلومة. نلاحظ أيضاً أن هذا الحديث الأخير يناقض ما جاء بالروايتين الأولتين حيث حدد المسافة المسموح بكشفها في اليد حتى منتصف الذراع وليس الكف كما في الروايتين الأولتين.
• لقد اتفقت الروايات الثلاثة – بإفتراض صحتها وهو أمر مشكوك فيه لأسباب ورد ذكر بعضها وسيرد ذكر البعض الآخر- في أمر مشترك وهو أن رأي الرسول (ص) جاء في موقف إحتجاج على زي لم يكن مقبولاً لديه فالرواية الأولى تتحدث عن "عليها ثياب رقاق"، والثانية عن " ثياب شامية واسعة الأكمام"، والثالثة عن دخول ابنة أخ السيدة عائشة مزينة، فالراجح من هذا أن الأمر لمن يكن يتعلق بطول الملبس أو قصره وإنما بإحتجاج على إبراز مفاتن للجسد أكبر من الحد المعقول.
• امر آخر يشككنا في صحة الروايات، حيث أنه يستشف من السياق أن السيدة أسماء كما ورد بالروايتين الأولتين أو إبنة أخ السيدة عائشة كما جاء في الثالثة لا تعرفان "الزي الشرعي" وإلا لما خالفتاه. بل يبدو من الرواية الثانية أن السيدة عائشة نفسها لا تعلم ذلك بدليل أنها إستغربت ضيق الرسول ولحقت به لتعرف سبب ضيقه، فكيف يستقيم عقلاً أن يجهل آل بيت الرسول (ص) هذا الأمر الهام؟ بل أن هناك سبباً أكبر من ذلك مما يدعو للتشكيك حول صحة الرواية وهو الحديث الوارد بصحيح البخاري والمنسوب لعبدالله بن عمر أنه قال: "كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا". زاد بن ماجة عليه فأضاف "من اناء واحد" وابوداؤود "ندلي فيه أيدينا"، ومعلوم بداهة أن الوضؤ يجعل من كشف ماهو أكبر من الوجه والكفين للمرأة شيئاً محتوماً.
• إن الطريقة التي إنفعل بها الرسول (ص) وفقاً للرواية أعلاه تفترض أن هناك مواصفات مسبقة للزي "الشرعي" تم مخالفتها، فأين إذاً هذا النص الذي يوضح هذا الزي الذي تم مخالفة مواصفاته؟ هل هي آيات " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن" و " قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن"؟ لكن هذه الآيات لم تتعرض للحدود الفاصلة بين المكشوف والمستور من البدن.
• بناءاً على ماورد أعلاه لا يمكن لنا أن ننظر إلى رد فعل النبي (ص) على زي السيدة أسماء، وإن صحت الرواية، إلا مثلما ننظر لحديث الرسول (ص) عندما رفض نكاح علي بن أبي طالب من إبنةً لبني هشام بن المغيرة حيث قال من على المنبر: "فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق إبنتي وينكح إبنتهم"، بإعتباره رد فعل إنساني نشأ بحكم الغيرة على بيت النبوة أكثر من أنه أمراً دينياً يمنع تعدد الزوجات.
• واضعين في الإعتبار أن تدوين الحديث قد بدأ بعد 150 عاماً تقريباً من وفاة الرسول (ص) كيف نؤسس حكما بهذه الخطورة على أمر مشكوكاً فيه؟ بل حتى بإفتراض صحته، وهو إحتمال مستحيل في تقديرنا، ما المانع من معاملته معاملة حديث إرضاع الكبير الذي عطل الفقهاء العمل به رغم أنه أكثر صحة، بما لا يقاس، من هذا الحديث؟ لماذا يكبل الفقهاء النساء بحديث مشكوك في صحته، ويطلقون سراح الأرقاء الثابتة عبوديتهم بنصوص قطعية لا تحتمل التأويل؟
ثانياً: روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
بالنظر لهذا الحديث، فيما يخص عبارة كاسيات عاريات، حيث لا ترتبط العبارات الأخرى بمسألة اللبس من الأساس، نلاحظ الآتي:
• لم يشر الحديث كما هو واضح إلى زي بعينه، أو درجة تغطية معينة لجسد المرأة، كما لم يشر لشعر المرأة.
• أورد مسلم في صحيحه أربعة تأويلات لعبارة كاسيات عاريات، نوجزها في الآتي مع ملاحظة أن الإثنين الأولين منها لا يشيران للعرى الجسدي أصلاً:
o كاسيات من نعمة الله عاريات من شكرها.
o كاسيات من الثياب عاريات من فعل الخير والاهتمام لآخرتهن والاعتناء بالطاعات.
o تكشف شيئا من بدنها إظهارا لجمالها فهن كاسيات عاريات.
o يلبسن رقاقا تصف ما تحتها كاسيات عاريات في المعنى.
نلاحظ في التأويلين الأخيرين عدم دقتهما أو منطقيتهما، حيث أن كلمة عاري تشير عامة للتجرد من الملابس بشكل كامل وليس لمجرد إظهار جزء من البدن. كتأكيد لذلك، فنحن لا نصف الرجل لاعب كرة القدم بأنه عاري لمجرد أن زي كرة القدم يكشف عن جزء مقدر من جسده، و لانصف المرأة التي ترتدي الزي السوداني التقليدي الذي يكشف عن أجزاء من جسدها بأنها عارية، حيث أن كلمة "متبرجة" تعتبر أسوأ وصف يمكن أن يقدمه الفكر السلفي لحالتها هذه، فمن الواضح إذاً أن النظرة المتخلفة للمرأة التي سادت في تلك الفترة هي المسئولة عن هذا الخلل الكبير في التأويل.
يؤيد ما ذهبنا إليه، أن القرطبي في تناوله لهذا الحديث في سياق تفسيره لآية "والقواعد من النساء اللاتي لايرجون نكاحاً " نحى لتأويل مشابه للتأويلين الأولين حيث رأى "أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى". وقد دعًم قوله هذا بالإستشهاد بقوله تعالى بسورة الأعراف: "ولباس التقوى ذلك خير" وقول الشاعر :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى ... تقلب عريانا وإن كان كاسـيا
وخير لباس المرء طاعة ربــــه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا
كما أن العرب، وفقاً لما ورد بتفسير القرطبي، تكني عن الفضل والعفاف بالثياب كما قال شاعرهم :
ثياب بني عوف طهارى نقية
واضعين في الإعتبار أن تدوين الحديث قد بدأ بعد 150 عاماً تقريباً من وفاة الرسول (ص) كيف نؤسس أحكاماً بهذه الخطورة، كفرض زي معين على كل النساء وفي كل الأزمان، على أمر مشكوكاً فيه؟ بل حتى بإفتراض صحته، ما الحكمة في عدم معاملته معاملة حديث إرضاع الكبير، كمثال، والذي عطل الفقهاء العمل به رغم أنه أكثر صحة ووضوحاً، من هذا الحديث؟
ومقصود بها تلك النصوص التي لا تتطرق لمسألة الحجاب بإعتباره هو اللبس "الشرعي" للمرأة مباشرة، لكن توحي بذلك من خلال سياقها. يمكننا تلخيص أهمها في الآتي:
أولاً:
سورة النور – آية 60: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم".
إن النظر المستقيم للآية، شكلاً ومضموناً، لايمكن غير أن يصدم الباحثين عن "حجاب" في ثناياها. فالآية لا تشير، كما هو واضح، لزي بمواصفات معينة ينبغي للمرأة أن ترتديه سواءاً كانت صغيرة أو كبيرة في السن، وإنما تشير لإتاحة الفرصة للمرأة الكبيرة في السن التخفيف مما تلبس من ثياب بدون حرج شريطة أن يكون ذلك بدون إبتذال (أي تبرج) ، وهو أمر، أي الإبتذال، منهى عنه بوضوح في كل الأحوال.
لقد لجأ المفسرون والفقهاء إلى وضع إفادات متضاربة حول عبارة "يضعن ثيابهن"، تنزع في مجموعها لوضع قيود ثقيلة على زي المرأة كبيرة السن، التي خارج دائرة الإشتهاء، ليبرروا بذلك وضع قيود أثقل على تلك الصغيرة. دافعهم في ذلك ما ورثوه من ثقافة الحضارات الذكورية التي تبحث بإستمرار عن كل قيد ممكن للحط من المرأة بما في ذلك تأويل النص الديني وتحميله بمقاصد ليست منه. وإثبات سيادة هذه النزعة المعادية للأنثى لا يحتاج لعناء، ألم يكن ذلك المجتمع الذي أفرز هؤلاء المؤولين هو الذي نزل فيه قوله تعالى "وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت" لأنه مارس القتل المنظم للأنثى لمجرد أنها أنثى ؟
لقد تعددت تأويلات المفسرين حول عبارة "يضعن ثيابهن"، حيث منهم الذي قال أن المعني هو وضع الجلباب والذي هو القناع الذي يكون فوق الخمار والرداء الذي يكون فوق الثياب، ومنهم الذي قال أن المقصود من وضع الثياب هو وضع الخمار، أي بمعنى آخر كشف الرأس والشعر. إن هذا التعدد والإختلاف يؤكد ماذهبنا إليه من أن الأمر لا يعدو أن يكون وجهة نظر لأناس غير معصومين عاشوا في مجتمع معين له خصائصه وثقافته التي ألقت بظلالها على آرائهم، وهو شئ طبيعي، إلا أن الغير طبيعي أن تكتسب وجهة نظرهم الخلود والأبدية.
من الواضح أن الخالق، عز وجل، لو أراد حبس الناس في زي معين، لما صعب عليه تحديد مواصفات ذلك الزي وخصائصه. إن مرد ذلك، كما تفهمه العقول البريئة من السقم، أن الخالق أراد لعباده التمسك بالفضيلة ونشدان العفاف بدون أن يقيدهم بقالب محدد ذو طبيعة خالدة، في عالم شاءت إرادته هو نفسه أن يكون متغيراً متجدداً.
ثانياً:
حديث المرأة عورة : "حدثنا محمد بن بشار حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن مورق عن أبي أحوص عن عبد الله : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان". رواه الترمذي
يتم إستخدام هذا الحديث في معرض إثبات وجوب الحجاب، بإعتبار أن وظيفة الملبس الأساسية بالنسبة للفكر السلفي هي ستر العورة. والإحتجاج بهذا الحديث تشوبه نواحي ضعف كثيرة من أهمها:
• هنالك شك كبير في عدم صحة هذا الحديث من الأساس، حيث قال فيه القرضاوي: "تفرد به الترمذي عن سائر أصحاب السنن ولم يصفه بالصحة بل إكتفى بوصفه بالحسن والغرابة وذلك لأن بعض رواته ليسوا في الدرجة العليا من القبول والتوثيق، بل لايخلو من كلام في حفظهم مثل عمرو بن عاصم وهمام بن يحي" ("الحجاب" لجمال البنا نقلاً عن "النقاب للمرأة بين القول ببدعيته والقول بوجوبه" الدكتور يوسف القرضاوي).
• لا يتسق هذا الحكم، المرأة عورة، مع منطق النصوص الصريحة في القرآن الكريم التي تحدثت عن الحشمة بإعتبار أنها تستهدف حماية المرأة، وليس بسبب أنها عورة كمثال آية سورة الأحزاب "يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين".
• لا يتسق الحديث مع التصور الإسلامي للمرأة، وهو تصور ينظر للمرأة بإعتبارها إنسان كامل الإنسانية "النساء شقائق الرجال"، "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة"، "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم".
• على فرض صحته، لم يتطرق الحديث لماهية الزي الذي يجب على المرأة المسلمة التحلي به حتى تستر به هذه العورة، كما لم يحدد أجزاء هذا الجسد التي تضفي صفة العورة عليه، خاصة إذا وضعنا في الإعتبار أن العورة المقصودة لا تشمل الجسد كله بالضرورة بدليل حديث "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" الوارد بصحيح البخاري الذي يحرم تماما تغطية الكفين والوجه في الحج مما ينفي إنطباق صفة العورة عليهما.
ثالثاً :
روى مسلم في صحيحه: "حدثنا عمرو الناقد حدثنا عيسى بن يونس حدثنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال لتلبسها أختها من جلبابها".
• الحديث كما هو واضح، جاء في سياق التعاون على البر والتقوى، حيث يطلب الرسول (ص) من أولئك اللائي يملكن فائض من الجلابيب أن يساعدن إخواتهن اللائي يعانين من نقص فيها. وبطبيعة الحال، وحيث أن الزي المستخدم للمرأة في ذلك الزمان هو الجلباب، فإن توجيه الرسول إنصب في ما هو متاح ومتعارف عليه من لباس. لا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن لبس الجلباب أصبح فرضاً، وإلا لأصبح إستخدام الجمال والأرجل فرضاً في الحج إستناداً على آية "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق"، كما أسلفنا من قبل.
• لم يحدد الحديث طول الجلباب أو المساحة التي يجب أن يغطيها حتى يمكننا إستنباط ما إذا كان يمثل دليلاً على وجوب الحجاب أم لا، بل لم يحدد الحديث ماهية هذا الجلباب. فقد جاء في تعريفه بصحيح مسلم "أنه ثوب أقصر وأعرض من الخمار، وهي المقنعة تغطي به المرأة رأسها، وقيل هو ثوب واسع دون الرداء تغطي به صدرها وظهرها، وقيل هو الإزار، وقيل الخمار". ألم يكن من الأسلم لفقهائنا أن ينزعوا لجوهر الحديث الذي يناشد المسلمات أن يساعد بعضهن بعضاً، بدلاً عن هذا البحث الذي لا جدوى منه، لمعانٍ متوهمة، بهدف واحد، وهو إذلال المرأة عبر الطرق المتواصل في موضوع زيها، وكأنها خلقت فقط لشغل الرجال عن العمل النافع وإعمار هذه الأرض التي بسطها الخالق لهم؟!!
رابعاً:
الحديث الوارد بمسند بن حنبل وسنن أبي داوؤد : "حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا هشيم قال ابا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة قالت : كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه "
يساق الحديث كدليل على وجوب الجلباب بإعتباره اللباس "الشرعي" للمرأة المسلمة، بدليل إرتداء أم المؤمنين عائشة له، كما يساق أيضاً بإعتباره دليلاً على وجوب الحجاب حيث أن الجلباب من المفترض أن يغطي كل جسد المرأة.
• الحديث من الأحاديث الضعيفة بدليل ما أورده أبوداوؤد نفسه من تعليق شعيب الأرنؤوط : " إسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد".
• الأحاديث والآيات المتعلقة بأمهات المؤمنين، كالملبس وما إليه، لا يمكن القياس عليها، وقد أثبتنا هذه النقطة في مناقشتنا لآية " وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب " التي سبق الإشارة إليها في هذه الورقة.
• الحديث لا يدل على وجوب الحجاب، فهو لا يحدد المساحات التي يجب تغطيها من الجسد، كما أن معنى الجلباب مختلف عليه كما أوضحنا في مناقشتنا للحديث السابق "..لتلبسها أختها من جلبابها ".
• إن القول بوجوب سلوك معين فقط لأن الرسول (ص)، وزوجاته، وأصحابه كانوا يسلكونه بدون وضع إعتبار لفارق الزمان والمكان والبيئة، كما هو الحال في التعامل مع مسألة الجلباب، يوصل الناظر لنتائج مربكة للغاية، ولا علاقة لها بالدين ومقاصده من قريب أو بعيد. فقياساً على ذلك يمكن إعتبار الإرداف بين راكبين عند السفر الجماعي من قبيل الفرض والواجب، حيث ورد في عشرات الأحاديث الإشارة أن الرسول (ص) كان يردف أصحابه وزوجاته في دابته، حيث يمكن إيراد الأمثلة الآتية من صحيحي البخاري ومسلم للدلالة على ذلك:
o حدثنا أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الراحل ..
o عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس فركب نبي الله صلى الله عليه وسلم وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة..
o عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة من خثعم ...
o عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بينما أنا رديف النبي صلى الله عليه وسلم ..
o عن أسامة بن زيد أنه كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفة ...
o قال أنس بن مالك : أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أنا وأبو طلحة وصفية رديفته على ناقته ..
وهكذا، يمكن تقديم مئات النماذج على تعسف الفقهاء فيما ذهبوا إليه من إعطاء قدسية لأشياء معتادة في الحياة اليومية في ذلك الزمن البعيد. فالحديث وغيره من الأحاديث والآيات التي تطرقنا إليها في ورقتنا هذه، أقرت بوجود الخمار والجلباب عند نساء العرب و لم تأمر بهما، فالإقرار بالوجود لا يعني الإقرار بالوجوب.
يستخدم النقاب بغرض تغطية وجه المرأة لإخفاء ملامحها بإعتبار أن الوجه زينة يحرم إظهارها لغير المحارم في نظر الفكر السلفي. مما لا يختلف عليه سويان أن التعرف على شخص ما يستلزم النظر في وجهه والإطلاع على ملامحه لأن الوجه يشتمل على المعالم الأساسية لهوية الشخص، رجلاً كان أم إمرأة. على ضؤ ذلك، يصبح النقاب، ليس فقط حطاً من شأن المرأة بإعتبارها موضوعاً للشهوة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، بل يجردها حتى من صفة أنها كائن آدمي، أي بعبارة أخرى يحولها لشئ حيث يستكثر عليها أبسط حقوق الكائن الآدمي، وهو الهوية المستقلة.
إن الدين الذي جعل أساس التفضيل بين الناس، رجالاً ونساءاً هو التقوى بدليل قوله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وساواهم بالتالي في القيمة، لايمكن أن تحتوي تعاليمه بما يخالف ذلك، كأن يجعل نصف هؤلاء الناس أشياء مثلها مثل الأنعام والجمادات. لقد ساهمت أسباب كثيرة في خلق فكر سلفي يتميز بنظر سلبية تجاه الحياة بشكل عام، وينزع بإستمرار لتفسير نصوص الدين من واقع هذه النظرة السلبية، حتى لو أدى ذلك لتجاهل وإزدراء أعظم ما قدمه الخالق لللإنسان، وهو العقل. إن النظر في ما يطرحه الفكر السلفي لموضوع النقاب يعتبر نموذجاً ساطعاً للتعسف في تفسير النص بما يرضي ذلك الفكر، حتى لو أدى ذلك لمخالفة نصوص أكثر صحة من تلك المتعسف عليها.
أدناه، مختصر للأدلة المعتادة التي يقدمها الفكر السلفي في إثبات مشروعية ووجوب النقاب ووجهة نظرنا في تلك الأدلة والبينات:
أولاً:
حديث " لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" رواه البخاري
يستخدم البعض من دعاة النقاب هذا الحديث للتدليل على وجوب النقاب بفرضية أنه لو لم يكن النقاب هو الأصل وأنه هو الزي المتعارف عليه في الأحوال العادية، لما تم التطرق إليه وإستثناؤه في الإحرام، فالإستثناء يفترض وجود قاعدة، والقاعدة أن النساء مفروض عليهن لبس النقاب! ليس هذا فحسب، بل يصر بعضهم بأن تغطية الوجه واجبة حتى في الأحرام، وأن المقصود بالمنع في الإحرام هو نوع النقاب الذي يتكون في وجهة نظرهم من قطعة القماش ذات الفتحتين المفصلة على الوجه، ودليلهم في ذلك حديث ضعيف جداً منسوب للسيدة عائشة قالت فيه: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن محرمون. فإذا لقينا الراكب أسدلنا ثيابنا من فوق رءوسنا" (سنن بن ماجة)، رغم الحقيقة المعلومة بأن وضع نساء الرسول (ص) وحجابهن مختلف أصلاً، بشكل لايصح القياس عليه، عن وضع نساء المسلمين كما أوضحنا بالتفصيل سابقاً.
ولأن الهدف واضح لدى الفكر السلفي في شكله المتطرف وهو تكميم المرأة بأي وسيلة، حتى ولو بلي عنق النص الديني نفسه، فإنه تجاوز عن أن حديث "لا تنتقب المرأة" نفسه يصرح في نفس موضوع لبس الأحرام "لا تلبسوا القميص ولا السراويلات ولا العمائم ولا البرانس إلا أن يكون أحد ليست له نعلان فليلبس الخفين وليقطع أسفل من الكعبين ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران ولا الورس". فهل يعني منع لبس القميص أو العمامة عند الإحرام مثلاً، أن لبسهما واجب في الحياة العادية، إستناداً على نفس منطق فرض النقاب في الأحوال العادية؟ وأن التطيب بالزعفران في غير أيام الإحرام فرض لا محيص عنه بإعتبار أن ما أستثني في الأحرام دليلاً على وجوبه في غير ذلك؟
ثانياً:
حديث "جاءت إمرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة ؟ فقالت إن أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ’ابنك له أجر شهيدين’ قالت ولم ذاك يارسول الله ؟ قال ’لأنه قتله أهل الكتاب’ " سنن أبوداؤود
يستخدم دعاة النقاب هذا الحديث للتدليل على أن لبس النقاب هو السبيل لتحقيق قيمة الحياء للمرأة، وهي الصفة المطلوبة دينياً ومرغوبة إجتماعياً، بإعتبار تصريح أم خلاد بأن حيائها أهم من إبنها. كما أنهم يعتبرون أن عدم إعتراض الرسول (ص) على نقابها يعني ضمناً إقراره له. وفي الواقع ينهض هذا الحديث دليلاً على كراهة النقاب أكثر من أنه دليلاً على مشروعيته، وذلك للآتي:
• الحديث من الأحاديث الضعيفة جداً بمعايير علم الحديث، بل أن البخاري وصف أحد الواردين في سلسلة رواته، وهو فرج بن فضالة، بأن له مناكير.
• الحديث يشير بوضوح إلى أن النقاب كان أمراً شاذاً بدليل إستغراب، بل إستنكار الصحابة، الواضح من قولهم "جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة".
• كون أن الرسول (ص) لم يؤاخذها عليه، لايعني أنه إكتسب شرعية دينية. فالناس كانت تطبخ بالحطب في زمن الرسول، كمثال، فهل يعني هذا أن الطبخ بغيره غير جائز، أو أن الحطب له أفضلية دينية أو مكانة خاصة؟ أو أن القوانين التي تمنع قطع الأشجار حفاظاً على التوازن البيئي تعتبر غير شرعية؟
ثالثاً:
سورة الأحزاب – آية 59: "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما"
لقد أثبتنا من قبل بأن هذه الآية نزلت في الأصل لتمييز الحرائر من نساء المسلمين عن الإماء حتى لا يتعرضن لمضايقات الفساق بالمدينة. كما أبنا بأنها لا تنادي بالحجاب بمعناه الذي يطرحه الفكر السلفي، بيد أن السلفيين المتطرفين، أصحاب دعوة النقاب، وجدوا بها ضالة لهم، وهو الشطر من الآية الذي يقول "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين". حيث جرى تأويل بعيد يقوم على أن المعرفة والتمييز تتم نتيجة لكشف الوجه، وبالتالي لتجنب هذه المعرفة لا بد من تغطية الوجه، عليه يصبح الإدناء المطلوب المقصود هو تطويل جزء من الجلباب يمكِن من تغطية الوجه!! وفي هذا نقول:
• المعرفة المقصودة والمطلوبة لحماية المسلمات من الأذى لا تتم عبر التمعن في الوجوه، وانما في وجود "شارة" تمكِن مسببي الأذى المحتملين من فرز فريستهم في الظلام وهذه "الشارة" لابد من أن تكون واضحة لهم، لذا كان طول الملابس "إدناء الجلباب" هو الأنسب بداهة.
• إن تغطية الوجه تجعل من مهمة التعرف على نساء الرسول (ص) وبناته ونساء المؤمنين وتمييزهن عسيراً، مما يجعل إحتمال تعرضهن للأذى أكبر، فبالتالي لا يعقل أن يكون الإدناء المقصود به تغطية الوجه. وفي الواقع، أفاض المفسرون في توضيح أن التعرَف والتمييز هو مقصد الآية، وهو الضروري لتجنب أذى الفساق، فإبن كثير مثلاً يقول: " فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها".
• الحكمة من الادناء، كما أسلفنا، هي التعريف بهوية السائرات في الطريق حتى لايؤذين. فإذا تمكن الناس، بحكم التطور، من حماية المسلمات من الأذى بوسائل أخرى، فما الداعي إذاً لإستخدام تلك الوسيلة التي كانت تؤدي ذلك الدور سابقاً؟
إذا كان الهدف من هذا كله هو الحفاظ على الفضيلة والعفاف، فإن هذا الهدف أصعب مايكون بإستخدام النقاب. فكيف يتمكن المجتمع من مراقبة أحد أطراف الرزيلة المحتملين، وفي هذه الحالة المرأة، إذا كانت مغطاة بشكل لا يتيح لهذا المجتمع التحقق من هويتها؟ أنه من المعلوم بداهة أن الخشية من المجتمع هو أحد الأذرع الهامة جداً في تحقيق الإنضباط السلوكي حيث يراقب الناس بعضهم بعضاً بشكل يجعل الشخص القاصد للرزيلة يتردد في فعلها حتى لا يفتضح أمره ويذاع خبره بين الناس، فكيف يتم تحقيق ذلك إذا أتحنا لهذا الشخص الإختفاء بسهولة شديدة عن أعين هذا المجتمع؟ أمر آخر، كيف يمكن تحقيق الأمر الإلهي بغض البصر، إذا جعلنا لنصف البشر الحق في النظر للطرف الآخر كيفما ووقتما يريد بدون خوف، من تحت النقاب؟ أليس الخوف من المجتمع هو أحد العوامل الرئيسية الرادعة لذوي النفوس الضعيفة؟
إن البحث عن أصل للنقاب في الدين يمثل أحد أكثر النماذج الدالة على التعسف في إستخدام النص الديني ليسند وجهات النظر المريضة للبعض. إنهم يلجأون للنصوص الضعيفة حتى بالمعايير التي وضعوها هم لتصنيف النصوص، ويعطونها معاني أبعد مما تحتمله اللغة، ودلالات لاتتفق مع السياق، وذلك على الرغم من وجود نصوص صحيحة بشروط البخاري ومسلم، ولغتها أوضح، والسياق الذي وردت به أكثر إبانة، تؤكد شرعية كشف الوجه، حيث من ضمنها حديث تجمَل سبيعة بنت الحارث، وحديث المرأة الخثعمية، وحديث المرأة التي جاءت تهب نفسها للرسول، وحديث أن النساء كن يتوضأن مع الرجال في المسجد، وهي أحاديث سبق أن أوردناها مفصلة بهذه الدراسة، إضافة لحديث سفعاء الخدين: "عن جابر بن عبدالله : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكأ على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن فقال تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم فقامت امرأة من وسط النساء سفعاء الخدين فقالت لم يا رسول الله؟ قال لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير". وسفعاء الخدين تعني أن بهما تغيراً وسواداً مما يعني أن وجه المرأة كان كاشفا وهي بالمسجد. لتلافي إستخدام هذا الحديث كحجة ضدهم، حاول بعض دعاة النقاب تأويل كلمة سفعاء بإعتبار أن المقصود منها أن المرأة كانت جريئة ذات رعونة، وحاول آخرون الإستناد على رواية أخرى تفيد بأن المرأة كانت من سفلة القوم أي ليست من عاليهم رغم أن التكاليف الدينية لم تكن يوماً مرتبطة بالوضع الإجتماعي للفرد!! الغريب أن تتم كل هذه التأويلات رغم أن الرسول (ص)، صاحب البلاغ نفسه، لم يستنكر كشف هذه المرأة لوجهها لا تلميحاً ولا تصريحاً!! فكيف يستقيم أن نترك الصريح الواضح ونلجأ للتأويل البعيد؟
خاتمة
لا بد لي أن أنحني، وان أقٌبل إمتناناً بغير حدود، أيدي إثنين من المعاصرين أحاطا بأمر هذا "الحجاب" إحاطة عظيمة، ورفدا المكتبة العربية بأعمال مفتاحية بشأنه، كانت هي الأساس الذي بنيت عليه الأفكار الواردة في هذه الدراسة، وهما المستشار محمد سعيد العشماوي والأستاذ جمال البنا. في تقديري، أن هذه الأعمال الفكرية التي تستهدف معالجة أمر الحجاب من الزوايا المختلفة، خاصة البعد الديني له، إنما تؤسس لواقع جديد بدأت ملامحه في التشكل لدى الكثير من العقول النيرة، وهو أن الفكر السلفي الذي أقعد بالعالم الإسلامي لمئات السنين، والمسئول مسئولية مباشرة عن تذيل المسلمين لكل مؤشرات الرفاه المادي والمعنوي في عالم اليوم، لهو في مرحلة إحتضار فكري، حيث أفلس في المواجهة الفكرية مع قوى التجديد، وما الجنوح المتعاظم لدى العقل السلفي للتشبث بالسياسة وإعتلاء منابرها وإستخدام أسلحتها بمختلف أشكالها، بل التخلص الجسدي من دعاة ورعاة التجديد ورموزه، إلا محاولة أخيرة منه لإثبات نفسه والحفاظ على مبررات وجوده.
لقد تجاوز الفكر النهضوي الآن مرحلة تحديد عناصر الأزمة، والخطوط العريضة لمعالجتها، إلى مستوى جديد وهو وضع اللبنات العملية لمناهج الفقه الحديثة التي يمكن أن تسهم في إجراء تغييرات حاسمة على منظومة الفقه العتيقة، وهو ما إستطالت أعمال الأستاذ جمال البنا والإمام الصادق المهدي وغيرهما لتبلغ شأواَ عظيماً فيه. إن تخليص العقل المسلم مما شابه من مناهج فكر عتيقة شلت دوره وأقعدته عن العطاء والإسهام في تطور الفرد المسلم، وتحرير الوجدان مما كبله من قيود الخوف والإذعان والتردد، يشكلان عاملان مفتاحيان في تمكين المجتمع والفرد المسلم من التنافس على صدارة العالم من جديد، بقوة العلم والعقيدة وليس بحد السيف. وإن كانت قضية الحجاب تبدو ثانوية للكثيرين، قياساً بالهموم الوطنية الكبرى، إلا أنها رئيسية في موازين الفكر، بإعتبار أن الإنتصار فيها لمصلحة التقدم، يحرر العقل المسلم من القالب النمطي السائد الذي أثبت فشله الكامل، ويفتح بالتالي الباب واسعاً للإنتصار في تلك القضايا الأكثر أهمية.
| |
|